11/09/2020
لا يمكن، عند النظر في أعمال الفنّان ستيف سابيلا، تحييد القيمة البصريّة الّتي تحملها عن الرؤية الفكريّة والفلسفيّة، الّتي تتكوّن على شكل أسئلة أو إجابات يظلّ البصر - أو للدقّة - المخيّلة البصريّة، الوحيدة القادرة على تمثيلها. لكنّ سابيلا يتعاطى مع هذه المخيّلة من حيث إنّها سلسلة من العلائق الّتي تشنقنا بعدد لانهائيّ من الأشياء، حال انزلقنا من بطن الحياة، وما تجاربنا أو تجاربه الفكريّة والفنّيّة إلّا محاولات إثر محاولات في تحرير نفسه من هذه العلائق.
سابيلا، المولود في مدينة ينافس فيها الواقع أجود مخيّلة، يعتبر القدس عاصمة مخيّلته الشخصيّة. ومن حيث هي لم تعد لديه جذرًا أو منفًى بمعناهما المفهوم سياسيًّا، ستظلّ تشكّل موضوعًا للبحث والتجربة في أعماله. نجد آخرها أعمال كولاج يستخدم فيها سابيلا صورًا تاريخيّة للقدس، سيشعر الناظر أمامها بحيل المكان، وتساؤلات عن الحقيقة أو الوهم لِما يراه. وهي خيوط ومساحات برزخيّة يظلّ الكثير من أعماله الفنّيّة يقف عندها، يظلّ المتلقّي مضطربًا عندها وحاملًا حيرة بصريّة وفكريّة مثيرة.
أردت لهذه المقابلة مع الفنّان ستيف سابيلا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، أن تقف عند أعماله وعالم أفكاره الوجوديّة، فيضع الأخير تجربتنا البصريّة معه في سياقاتها الأعمق.
فُسْحَة: تتحدّث عن ضرورة تحرير النفس والوطن من خلال تحرير الخيال؛ هل تربط هذا الخيال بالضرورة بالمكان المستعمَر؟ وماذا أحدث انتقالك إلى برلين لهذا الخيال؟ أأجهده أم حرّره؟
ستيف: إنّ استعمار الخيال هو الشيء الأخطر على الإطلاق، إنّه متلازمة تُصيب كلّ واحد منّا. ولأنّه غير مرئيّ لنا ومن الصعب قياسه، فقد تمكّن من اختراق لاوعينا بصورة عميقة. على الرغم من ذلك، فإنّ جذور هذا الاستعمار ستكون مرئيّة أكثر حين يكون ثمّة احتلال على أرض الواقع، كما هي الحال في فلسطين. تحرير الأرض وتحرير النفس يتطلّبان تحريرًا للعقل. بمعنًى آخر، طالما أنّ ثمّة فلسطينيًّا واحدًا يتخيّل فلسطين حرّة، فلن يكون هناك أيّ فرصة أمام الاحتلال. بإمكاني القول إنّ وعيي تجاه الحياة تَكَثَّفَ حين تعلّمت كيف "أكون" في برلين، ببساطة، أن أكون. في اللحظة الّتي تهبطين فيها في برلين، ستعمل طاقة المدينة وعقليّتها على تغييرك، وعلى دفعك في اتّجاه كسر حواجزك الداخليّة وتحرير نفسك. الحرّيّة في برلين ليست نظريّة، وهي ليست فكرة أو يوتوبيا، إنّها شيء محسوس.
فُسْحَة: على أيّ شاكلة تكوّنت علاقتك الأولى بمدينتك، سياسيًّا وبصريًّا وشخصيًّا؟ ولأيٍّ من هذه الشاكلات كان الأثر الأقوى في أعمالك الفنّيّة؟
ستيف: منذ أن كنت ولدًا صغيرًا، حتّى جيل متقدّم، لم يتغيّر فهمي لحقيقة أنّ الدولة الّتي أنتمي إليها ليست دولة، إنّما أرض تحتلّها إسرائيل اسمها فلسطين. جميعنا نولَد أحرارًا، لكنّي أعتقد أنّ الإجابة الصحيحة للسؤال حول تطوّر الرابط بيني وبين القدس، هي في الحديث عن ولادتي، عند اللحظة الّتي فُصِلْتُ فيها عن حبل السرّة ثمّ صرت مربوطًا، معقودًا بعلاقات لانهائيّة، من بينها الاحتلال الإسرائيليّ للأرض وللنفس والعقل. صارت الحياة في ما بعد عبارة عن رحلة لانهائيّة من أجل تحرير أنفسنا من كلّ شيء؛ كي نعيش الحياة الّتي نتخيّلها لا تلك المفروضة علينا. لسنواتٍ كنت أدّعي أنّ القدس عاصمة مخيّلتي. وفي القدس، لا يمكنك الهروب من السياسة؛ فهي مدينة تستهلكك سياسيًّا وبصريًّا وشخصيًّا. والبصريّ أكثر ما يستفزّني لأنّه يشكّل وسيلة التعبير لديّ. مع الأسف، لوّث الاحتلال رؤيتنا. أحيانًا أعمد إلى تحويل هذه السمّيّة إلى فنّ أو العكس، أبحث عن الجماليّات غير المرئيّة من خلال تفحّص طبقات المرئيّ الملوّث.
فُسْحَة: تقول إنّ الخيال هو الجسر الوحيد للوصول إلى الرؤية، ومن الممكن تَتَبُّع وزن الخيال كمفهوم ومساحة في الكثير من أعمالك، لكن إذا ما تحدّثنا عن فنّ التصوير (Photography)، فإنّه سيكون في جوهره أداة للقبض على لحظة من الواقع إذا ما قارنّاه بالرسم مثلًا، وبهذا فمن الممكن أن يتضادّ مع الخيال؛ ما رأيك؟
ستيف: في مقال لي بعنوان "أركيولوجيا المستقبل"، كتبت كيف أنّ تعديل الضوء على الورق والألواح المعدنيّة هزّ العالم. إنّ الصور الناتجة خلقت أعظم تماثل مع الوهم الّذي بإمكان أعيننا رؤيته. من جهة أخرى، فليس فيها أيّ صلة بالواقع لأنّها شكّلت عالمًا خاصًّا بها. ومن حيث إنّ الصور قادرة على خلق وعيها تجاه العالم، أتساءل ما إذا حان الوقت لكي نتوقّف عن التركيز على العلاقة بين الصور والعالم الحقيقيّ. ربّما ينبغي لنا أن نستكشف العناصر البصريّة للعالم من خلال التأمّل في الصورة نفسها، بالضبط كما هي الحال في التجارب العلميّة. علينا دراسة الصور، علائقها ببعضها بعضًا، خصائصها، منابتها، من خلال مشاهدتها المباشرة لا من خلال مقارنتها الدائمة بالواقع. وقد يتيح لنا ذلك أن نكتشف احتمالات لانهائيّة مخبّأة في الصورة.
إنّ علاقتي بالصورة تشبه أن أكون في أوديسة الفضاء، في بحث عن إدراك لتكوين الصورة. وبما أنّ الصورة جزء من المخيّلة، فإنّ فكّ الرمز سيتيح لنا رؤية ما هو أبعد من واقعنا. وبصورة أعمّ؛ فالسيرورة ساعدتني على إيجاد حرّيّتي.
Leave a comment