هذا الفنان الفلسطيني من أكثر أبناء جيله نشاطاً. قدّم في عقد واحد مجموعة أعمال لافتة، آخرها «في المنفى» الذي عُرض أخيراً في لندن. وفي جعبته مشروع إشكالي لم يُنجز بعنوان «فلسطيني وستة إسرائيليين»!
نجوان درويش
أكثر من سؤال يثيره عمل ستيف سابيلا الأخير «في المنفى» الذي قدّمه أخيراًً في صالة P3 في لندن، سواء على مستوى المفهوم أو على مستوى التقنية، حيث يواصل استعمال التصوير الفوتوغرافيّ مع وسائط أخرى لتوصيل المفهوم أو الحالة التي يعالجها. يقدم سابيلا (القدس 1975) عبر خمس لوحات كبيرة نسبياً (١٣٦ x ١٢٨ سنتم)، مشغولة بتقنية الفوتومونتاج، شكلاً بصرياً للحالة الذهنية للعيش في المنفى.
لكن أي منفى؟ لعل أسهل الإجابات الالتفات إلى منفى الشعب الفلسطيني والإحالة على مشروع سابق للفنان بعنوان «القدس في المنفى» (2006) اشترك كاتب هذه السطور في صياغة جانبه النظري. ويمكن تلخيص فكرة ذلك المشروع المستمر بأنّ القدس اليوم مدينة منفية؛ من خلال إسقاط مفهوم المنفى ـ الذي هو أصلاً مفهوم إنساني ـ على المكان. وإن كان مفهوم المنفى يتعلق بإبعاد الإنسان عن مكانه، فإنّ «القدس في المنفى» افترض أنّ إبعاد المكان عن إنسانه من سلطة احتلال هو نفي لهذا المكان. وتلك هي حال القدس التي لا تُمنع الأغلبية الساحقة من العرب والفلسطينيين من الوصول إليها فحسب، بل حتى سكان ضواحيها من الفلسطينيين.
ويتساءل المشروع عن الدور الذي يستطيعه الفن في فترات التحرر الوطني وفي مواجهة العنف الكولنيالي على الأقل من خلال إثارة المخيلة الجماعية. هذه الخلفية السياسية لـ«القدس في المنفى» تُغري بالربط بين المشروعين وبين المنفى الذي يتحدثان عنه، ولا سيما أنّ تفسير عمل الفنانين الفلسطينيين سياسياً عادة مزمنة تذهب أحياناً إلى تقويلهم ما لم يكن في بالهم. لكن الجانب الذاتي في عمل سابيلا الحالي الوجودي إذا شئتم يبدو أوضح من أي إسقاط سياسي مباشر. ولعل المنفى هنا هو الحياة نفسها، إذا تذكّر المرء قول أفلاطون «الحياة منفى قصير». ورغم ذلك، لا نستطيع الهرب من فكرة أنّ الحياة الفلسطينية منفى قصير بمزايا خاصة: اقتلاع متواصل واستهداف وحصار. هنا يحضر المنفى ببعديه الأرضي والميتافيزيقي. تحضر مقولات إدوارد سعيد عن المنفى والوعي المزدوج الذي يرى المنفيّ الأشياء من خلاله، مع مقوله ميتافيزيقية مثل «الحياة منفى قصير».
في 2007، انتقل سابيلا إلى عاصمة الضباب مع شريكته الشابة وطفلتهما سيسيل. ولعل الدراسة الأكاديمية كانت ذريعة ستيف للخروج من منفى القدس إلى منفى آخر أكثر رحابة. ومن شباك شقته اللندنية كانت طفلته تنظر من النافذة في حالة تشبه التأمل (من قال إن الأطفال لا يتأملون) حين بدأ بالتقاط مجموعة من الصور لها وهي تنظر من شباك المنفى. ثم وبتقنية الفوتومناج، تراكبت الصور وتكاثرت الشبابيك والطفلات اللواتي ينظرن منها.. حتى يتم تغريب المشهد أو «ألينته» تماماً. وإن كان التغريب أو «الألينة» عنصرين طبيعيين من عناصر كل عمل فني؛ فإن التغريب في عمل سابيلا يبدو مضاعفاً بهدف ابتكار شكل بصري للحالة الذهنية للعيش في المنفى. فالتكوينات التي تستلهم التكعيبية والتجريد ــــ وهما يمثّلان المحتوى البصري للوحات الخمس ـــــ تسعف المتلقي في بناء حالته الشعورية الخاصة المستند إلى تجربة المتلقي نفسه مع حالة المنفى. وبدورها تحيل الهندسة التلقائية الموجودة في تشكيل اللوحات على لغة المنفى، ولعل هذا يدفع إلى التفكير في مفهوم الهندسة عموماً وعلاقته بحالة المنفى.
يبدو سابيلا الذي فاز أخيراً بجائزة «ألين أورباخ» من «أكاديمية برلين للفنون» من أكثر أبناء جيله نشاطاً. قدّم في عقد واحد مجموعة أعمال ومشاريع لافتة مثل «منتالوبيا» (2007) الذي يتصادى مع كلمة «يوتوبيا» ويتخذ من قلق الهوية موضوعاً. و«القدس في المنفى» (2006) أو حتى عمل إشكالي لم يعرض بعد اسمه «فلسطيني وستة إسرائيليين». وقد أقنع فيه ستة إسرائيليين بالتعري على خلفية إسمنتية تشبه جدار الفصل العنصري، حيث وقف الإسرائيليون العراة مقابل الفلسطيني العاري الذي لم يكن سوى الفنان نفسه!
Leave a comment